الأخلاق من الأمور التي قامت عليها جميع الأديان، سواء كانت الأديان التي تستمد شرائعها من السماء، أو تلك العقائد الوضعية والفلسفية التي وضعها بني البشر لتنظيم حياتهم والارتقاء بها. وهنا تكمن الإشكالية التي نتحدث عنها خلال هذا المقال، وهي التشابك بين الأخلاق والفلسفة المستمدة منها وبين الدين، والأخلاق التي حث عليها، ونطرح سؤالاً هاماً سيكون جوهر النقاط التالية في هذا المقال وهو ما طبيعة العلاقة بين فلسفة الأخلاق التي وبين الدين كمقوم هام للحياة الإنسانية؟
مفهوم الأخلاق في المدارس الفلسفية المختلفة و نظرة الفلاسفة إليها:
على مر العصور أهتمت المدارس الفلسفية سواءً القديمة منها أو الحديثة بتفسير الظواهر الأخلاقية، ومعايير الخير والشر لدى البشر، حيث تعرف الأخلاق أنها مجموعة من القواعد والعادات السلوكية، المُلزمة للإنسان في تعامله مع نفسه، أو مع الآخرين.
أما عن مفهوم الاخلاق وارتباطه بالصفات المعيارية للخير والشر، فإن المدارس الفلسفية أجمعت على أن الأخلاق تجعل الإنسان مهتماً بتقوية غريزته المحضة في الخير، وكبح جماح الشهوات والنزعة الشريرة في نفسه.
ولا تختلف بالضرورة نظرة الفلاسفة المنتمين إلى المدارس الفلسفية قديماً وحديثاً إلى الأخلاق عن التفسير السابق، حيث يرى على سبيل المثال الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون الأخلاق أنها شئ معنوي من شأنه الترفع عن الشهوات الدنيوية العادية كالطعام والشراب والجنس وغيرها من غرائز الإنسان، بينما يرى كانط، ان الأخلاق ترتبط بالإرادة العقلية في اللاوعي، وكذلك يرى جان جاك روسو الأخلاق، أنها تمييز بين الخير والشر، وكذلك نيتشه في نظريته حول الأخلاق التي تتلخص انها نابعة من الإنسان الذي يبني عالمه الأخلاقي الخاص به.
الاخلاق والدين والمجتمع .. التشابك بين المفاهيم:
لم يخلو دين من الأديان من الأخلاق الحميدة التي تعلو بالإنسان وترفع مكانته بين سائر المخلوقات، فتعتبر الأخلاق من أسس الدين الذي أنزله الله، أو حتى المعتقدات الوضعية في العديد من المجتمعات، هي المعيار المميز بين الإنسان وغيره من المخلوقات الاخرى في الكون الفسيح، ومثلما أخبرتنا فلسفة الأخلاق في أقوال بعض الفلاسفة مثل سقراط أنها نابعة تماماً من عقل الإنسان، نجد أن الدين يخبرنا بأن العقل هو مناص التكليف، وهذا يجعلنا نؤكد أن هناك قاعدة مشتركة بين الأخلاق والدين وبالتالي السلوكيات وآثارها ونتائجها على المجتمع وهذة القاعدة المشتركة هي العقل.
وهنا ينشأ النزاع بين ما هو أخلاقي وما هو ديني، ويتحول العقل إلى ساحة للمعركة التي يحاول فيها الدين احتلال العقل وتحاول فيها الأخلاق احتلال العقل أيضاً، ولا شك أن أساس هذا النزاع هو مطالبة الدين بتعطيل العقل والقبول فقط بتكليفات السماء، ومطالبة الأخلاق بإعمال العقل ورفض ما هو ديني ولا يتفق مع المنطق العقلي. ولفض هذا التداخل والاشتباك سنناقش كل مفهوم على حدة وعلاقته بالأخلاق.
بالنسبة للدين، فهو يزعم انه يخاطب العقل سواء في الأحكام التي يفرضها، أو في الأخلاق التي يحث على ضرورة التحلي بها، ولكننا نجد الكثير من النصوص الدينية التي ليس لها أي أساس عقلي، ومع ذلك يطالب الدين بالالتزام بها وعدم التقصير فيها. لذلك هناك تعارضاً بين الناس في استقبال تلك النصوص، فكل فريق يريد أن يفسرها لصالحه.
وفي الواقع الذي نعيشه في مجتمعاتنا العربية نجد أن هناك بعضاً من المتدينين ليس لديهم أخلاق، وبعضاً من الغير متدينين لديهم اخلاق ملتزمون بها ويعيشون علي أساسها. وهذا ليس عيباً في الدين أو المعتقد بقدر ما هو ناتج عن التعارض بين الدين والأخلاق او المرجعية الدينية والمرجعية العقلية.
ويرى البعض ان الأخلاق هي جوهر الدين، وهي أشد ضرورة، وأجدر في التحلي بها والتمسك بها، لأنها قوام رسالة الله للإنسان وسيره على الدرب الصحيح.
فالأخلاق هنا تمثلت في الخطوط العريضة التي تحث الإنسان علي الخير وبعده عن الشر، لكن هناك بعض العقول والمجتمعات والعادات قد تختلف في تفسير تلك النصوص الدينية، فأخلاقيات الزكاة والمساواة والتكافل الإجتماعي وغيرها موجودة في في جميع الأديان، ولكن هناك بعض من الاخلاقيات أو بالأحرى التفسيرات الخاطئة تحوّل أخلاقيات معينة إلى أشياء كارثية مثل قتل الآخر لمجرد الإختلاف في الرأي أو المعتقد، وهذا ما لايبرره الدين ولا العقل، بل بعيداً كل البعد عن الأخلاق بشكل عام، لكنه قريباً من التفسيرات التي وجدت من الدين ستاراً لها واستغلالاً لأغراض غير سوية في العديد من المجتمعات.
وفيما يلي نتعرف سوياً على تقسيمات الاخلاقيات الإنسانية التي قسمها الفلاسفة إلى أربعة أقسام رئيسية:
1- الأخلاقيات العليا:
وهي تلك الأخلاقيات التي ترتبط بالنظريات الاخلاقية او الافتراضات الأخلاقية التي وضعتها المدارس الفلسفية، ونظرة هذه المدارس نحو الاخلاق، و مرجعية العديد من الأخلاق إلى النظريات الفلسفية المفروضة.
وبشكل أوضح فإن هذه الاخلاقيات تتمثل في تلك القيم العليا والتي تبنى بها النظريات الإنسانية الضرورية، لقيام الحياة الإنسانية والتي حثت عليها جميع الاديان والمعتقدات، بل وجميع النظريات الفسلفية سواء القديمة أو الحديثة، وبمعنى آخر، فإن تلك القيم العليا هي التي تبنى عليها المجتمعات، ومن أجلها قامت العديد من الحركات الإنسانية لتحقيقها أو البحث نحو سبيل نحو الوصول غليها مثل قيم العدل والحرية والمساواة وغيرها من القيم العليا التي هي جوهر الحياة الإنسانية.
2- الأخلاقيات المعيارية:
وهي التي تعني في نظر المدارس الفلسفية تلك الأخلاقيات التي من شأنها تحديد نهج اخلاقي للأفعال البشرية، وتحديد معيار الخير المحض او الشر المحض من خلال تلك الأفعال، فهي القيم التي يمكن أن نقول عليها القيم الإنسانية التي يجب أن يتحلى بها الإنسان في حياته اليومية، مثل الكذب وهو يمثل الشر او الصدق وهو يمثل الخير وهكذا.
3- الأخلاقيات التطبيقية:
وهي تلك الأخلاقيات التي ينتج عنها علاقة مباشرة مع المجتمع في تعامل البشر فيما بينهم، حيث تتجلى تلك القيم التطبيقية في ظهور الصواب والخطأ، وفي مواقف معينة، من خلال تطبيق وتنفيذ الأخلاق من خلال التعاملات، او من خلال ترفع الإنسان عن الخطأ، واقترابه أكثر من الصواب، وهذه الاخلاق التي بعد فترة قد تكون صفات اصيلة في طبائع الإنسان.
4- الاخلاقيات الوصفية:
وهي تلك الأخلاق التي تتعلق بدراسة معتقدات الناس والمجتمعات فيما يتعلق بالقيم الاخلاقية وكيفية تطبيقها على هذه المجتمعات، ولا غرو في قولنا ان تلك القيم الاخلاقية تسمى بالاخلاقيات المقارنة، وذلك لأنها ببساطة قد تجدي في مجتمع من المجتمعات حسب المعتقد الديني، او التقاليد والعادات والثقافة المحلية، بينما لا تجدي ولا تنفع لمجتمع آخر مختلف في العادات والثقافة والاعتقاد الديني، مثل القيم التي يتبناها الغرب في معاملته اليومية ويرى فيها شيئاً عادياً بينما لا تقبلها المجتمعات العربية والإسلامية.
وبعد أن تعرفنا على تقسيمات الأخلاق، بقى شيئاً مهماً في هذا المقال، وهو أن غالبية الناس لا تتعامل مع مفاهيم الاخلاق كشئ مستقل، بل يخلطون بين الأخلاقيات والأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية، بل ويخلطون بين التحلي بخلق معين لأن القانون الوضعي يحث عليه، وهذا لبس خطير يؤدي إلى نتيجة وخيمة تجعل الإنسان منفصلاً عن واقعه، وبالتالي إنفصاله عن القيام الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها.
وفي النهاية يجب أن نؤكد أن الأخلاقيات هي السبيل الوحيد للإجابة على أكثر الأسئلة تعقيداً في الحياة، مثل الاسئلة تتعلق بمفهومي الخير والشر أو الفضائل والرزائل، أو العدالة والجريمة وغيرها من المفاهيم البشرية التي يتجادل حولها المجتمعات، وبالتالي نرى أن ضرورة النظرة إلى الاخلاق كمفهوم مستقل في تحديد السلوكيات التي ترشدنا نحو الحياة السوية التي حث عليها الأديان بدون تشدد او غلو غير نافع لبني البشر.