لم تكن رحلته إلى البادية نزهة، فلم يكن مدللاً كغيره، بل كان يعيش حياة صعبة، قوامها التجوال من أجل العلم، والاستفادة من خبرات ما سبقوه، لقد كان شاباً ذكياً استفاد من السابقين وتفقه في الدين واللغة، حتى أصبح من أعظم أئمة الإسلام حتى الآن، إنه الإمام الشافعي.
ولد محمد بن إدريس الشافعي في غزة بالشام عام 150هــ، ثم انتقل والده إلى مكة، حيث ينتسب الشافعي إلى أشراف بني هاشم، وأمه من أزد اليمن، عاشت الاسرة حياة صعبة وفقيرة بالرغم من انهم كانوا ينتسبون إلى بني هاشم، إلا أن الاسرة كانت فقيرة في غزة، وفقيرة أيضاً عندما حلت بمكة.
الطفل كان نابغة بين الأطفال، منكباً على العلوم وحفظ القرآن والسنة النبوية، وعلوم اللغة العربية، وعندما شب قليلا قرر الشاب الصغير ان يخطو خطوة ذكية في دراسته، لقد فهم الصغير ان اللغة العربية الاصيلة هي المفتاح السحري لفهم الفقه والدين والقرآن وأسراره، والسنة ومغازيها، لذلك قرر الترحال إلى البادية ينتقل إلى مكان ثم يتركه حتى استقر بين مضارب قبيلة هذيل، يتعلم على يد شيوخها العربية على أصولها، حتى أصبح أفصح من في سنه، وعندما تم 10 سنين له في البادية قرر الرجوع إلى مكة ليبدأ رحلة علم أخرى، كانت بداية انطلاقته الحقيقية.
لقد كان الشاب محمد بن إدريس فصيحاً بحكم تعلمه العربية والتخلص من العجمة في اللسان العربي وكانت قد غزت اللسان العربي في عصره ، وبدأ بعدها رحلته في مكة، حيث تتلمذ على يد معظم شيوخ مكة في الفقه والحديث والقرآن، وبلغ مكانة وهيبة عظيمة، حتى تم الإذن له بالفتيا من احد شيوخه، لقد وصل إلى بداية السلم الحقيقي للفقه.
كانت نفسه المتقدة تدفعه إلى العلم وفقط، ينهل من بحره الواسع، كأنه لا يوجد في هذه الدنيا من يعوم مثله، لقد بلغ الشافعي العشرين، وبدأ صيته يعلو في أفاق العلم في مكة، حتى قرر الشاب وهو في سن الرابعة والعشرين ان يترك مكة وينطلق نحو مدينة رسول الله، والتي كانت بين أرجائها الإمام مالك بن أنس، إمام اهل الحديث، لقد قرر الشافعي أن يتتلمذ على يد مالك وينهل من علمه الغزير في الحديث والفقه، لقد عاش مع شيخه مالك في أيامه الأخيرة وقرأ موطأ مالك ونهل من المالكية وأحكامها حتى توفي الإمام مالك، ليقرر الشافعي ترك المدينة ويبدأ رحلته العلمية.
لقد بدأ يتضح مشروع الشافعي العلمي الآن، الرجل الذي شب في العلم، ونضج في دروب الفقه، يريد أن يبني لنفسه مذهباً خاصاً ويزاحم الفقهاء على مأدبة العلم، لقد قرر أن يرحل إلى اليمن من أجل أن يعلم الناس وينشر أحكامه الفقهية الخاصة، ويبدأ في العمل بالقضاء، وهنا نرى أن حياته أمام منعطف كان خطراً على الشافعي.
في اليمن يبدأ رحلة العلم والتعليم مع القضاء، لتزحف السياسة عليه شيئاً فشيئاً، لقد كان الشافعي قاضياً عادلاً لا يخشى دوائر السلطة في اليمن، وكان ينتقد الأوضاع السياسة حتى انتقد الوالي نفسه، وأصبح في صف المعارضة، حتى تم إعتقاله.
كانت اليمن كغيرها تابعة لدولة الخلافة العباسية في بغداد، أُرسُل الشافعي إلى بغداد، لتبدأ رحلة هامة للغاية في تشكيل عقل الشافعي العلمي ومذهبه، خرج من المعتقل وأعجب به هارون الرشيد الخليفة ورأى فيه النبوغ والعلم، وتركه يعمل في بغداد، بعد أن ابتعد الشافعي عن السياسة وتفرغ لمشروعه العلمي، لقد تأثر في بغداد بالمناظرات والجدال مع تلاميذ أبي حنيفة، ونهل من علمهم ومناظرتهم، حتى اجتمع له أخيراً علم أبي حنيفة وعلم مالك من قبل، لقد أصبح مؤهلا لبناء مذهبه الشخصي.. وهنا جاء دور مصر في رحلته.
لم تنته الرحلة بعد بل بدأت أخطر أدوارها وذروة سنام الجهاد فيها، انتقل الشافعي إلى مصر بعد أن كره الأجواء في بغداد، رحل إلى مصر بعد تأليفه كتاب الرسالة، ولقد كان أهل مصر ينتصرون لمذهب مالك المحبب إلى قلبه، وبدأ يفتي في مصر ويغير من قواعد الفقه، ويفتح باب الإجتهاد من منظور الحفاظ على تقاليد الحديث والأخذ بها، لقد كان مذهبه وسطاً بين فقه أبي حنيفة القائم على الاجتهاد العقلي، وبين مذهب مالك المحافظ على الأصول وتقاليد الحديث والسنة النبوية، حتى اشتهر مذهبه وأصبح له قواعد وتلاميذ وأراء وكتب، لقد أصبح مذهب الشافعي أحد أهم المذاهب الأربعة في الإسلام، لقد تجلى ذكاء الإمام الشافعي في جمعه لجميع علوم السابقين وعلوم العربية وخلط كل هذا بالأراء الفقهية السديدة، لقد انتهت رحلة الشافعي في 204هــ بوفاته في مصر التي أحبها كثيرا ووجد بين أهلها نصيرا وعوناً على نشر فقهه و أراءه، هذه كانت رحلة الشافعي صاحب المذهب الوسط في الإسلام.